الربح من على الانترنت مجرد ضغطة

أهلاوية دوت كوم | اخبار النادى الأهلى المصرى

Tuesday, March 23, 2010

قصة النبى ادريس عليه السلام

إدريس عليه السلام‏
قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا *وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [مريم: 56 - 57] .
فإدريس عليه السلام: قد أثنى الله عليه، ووصفه بالنبوة، والصديقية، وهو خنوخ هذا، وهو في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما ذكره غير واحد من علماء النسب.
وكان أول بني آدم أعطي النبوة، بعد آدم وشيث عليهما السلام.
وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم، ثلاثمائة سنة وثماني سنين.
وقد قال طائفة من الناس: إنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي، لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الخط بالرمل فقال: « إنه كان نبي يخط به، فمن وافق خطه فذاك ».
ويزعم كثير من علماء التفسير، والأحكام، أنه أول من تكلم في ذلك، ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه أشياء كثيرة، كما كذبوا على غيره من الأنبياء، والعلماء، والحكماء، والأولياء.
وقوله تعالى: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } هو كما ثبت في (الصحيحين)، في حديث الإسراء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به، وهو في السماء الرابعة.
وقد روى ابن جرير، عن يونس، عن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: سأل ابن عباس كعبًا، وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله تعالى لإدريس: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }.
فقال كعب: أما إدريس؛ فإن الله أوحى إليه، أني أرفع لك كل يوم، مثل جميع عمل بني آدم، لعله من أهل زمانه، فأحب أن يزداد عملًا، فأتاه خليل له من الملائكة.
فقال له: إن الله أوحى إلي كذا، وكذا، فكلم ملك الموت حتى أزداد عملًا، فحمله بين جناحيه، ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة، تلقاه ملك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس.
فقال: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: فالعجب بعثت، وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عز وجل: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }.
ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها، وعنده: فقال لذلك الملك: سل لي ملك الموت كم بقي من عمري؟
فسأله وهو معه: كم بقي من عمره؟ فقال: لا أدري حتى أنظر، فنظر فقال: إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك إلى تحت جناحه، إلى إدريس، فإذا هو قد قبض، وهو لا يشعر.
وهذا من الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة.
وقول ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }.
قال إدريس: رفع ولم يمت، كما رفع عيسى، إن أراد أنه لم يمت إلى الآن، ففي هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حيًا إلى السماء ثم قبض هناك، فلا ينافي ما تقدم عن كعب الأحبار، والله أعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس، في قوله: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } رفع إلى السماء السادسة، فمات بها.
وهكذا قال الضحاك، والحديث المتفق عليه، من أنه في السماء الرابعة أصح. وهو قول مجاهد، وغير واحد.
وقال الحسن البصري: { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال إلى الجنة.
وقال قائلون: رفع في حياة أبيه، يرد بن مهلاييل، والله أعلم.
وقد زعم بعضهم، أن إدريس لم يكن قبل نوح، بل في زمان بني إسرائيل.
قال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود، وابن عباس، أن إلياس هو إدريس، واستأنسوا في ذلك، بما جاء في حديث الزهري، عن أنس في الإسراء: أنه لما مر به عليه السلام، قال له: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ولم يقل كما قال آدم، وإبراهيم: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح.
قالوا: فلو كان في عمود نسبه، لقال له كما قال له. وهذا لا يدل، ولا بد لأنه قد لا يكون الراوي حفظه جيدًا. أو لعله قاله له، على سبيل الهضم، والتواضع، ولم ينتصب له في مقام الأبوة، كما انتصب لآدم أبي البشر، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن، وأكبر أولي العزم، بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

وفاة آدم و وصيته إلى ابنه شيث

وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث
ومعنى شيث هبة الله، وسمياه بذلك لأنهما رزقاه بعد أن قتل هابيل. قال أبو ذر في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف ».
على شيث خمسين صحيفة.
قال محمد بن إسحاق: ولما حضرت آدم الوفاة، عهد إلى ابنه شيث وعلمه ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادات تلك الساعات، وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك. قال: ويقال إن انتساب بني آدم اليوم كلها تنتهي إلى شيث. وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادوا والله أعلم.
ولما توفي آدم عليه السلام، وكان ذلك يوم الجمعة، جاءته الملائكة بحنوط وكفن من عند الله عز وجل من الجنة. وعزوا فيه ابنه ووصيه شيثًا عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وكسفت الشمس والقمر سبعة أيام بلياليهن.
وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن يحيى هو ابن ضمرة السعدي قال: رأيت شيخًا بالمدينة تكلم فسألت عنه، فقالوا: هذا أبي بن كعب.
فقال: إن آدم لما حضره الموت قال لبنيه: أي بني إني أشتهي من ثمار الجنة، قال: فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة ومعهم أكفانه وحنوطه، ومعهم الفوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم: يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون؟ أو ما تريدون، وأين تطلبون؟
قالوا: أبونا مريض واشتهى من ثمار الجنة.
فقالوا لهم: ارجعوا، فقد قضى أبوكم فجاءوا، فلما رأتهم حواء عرفتهم فلاذت بآدم، فقال: إليك عني، فإني إنما أتيت من قبلك فخلي بيني وبين ملائكة ربي عز وجل، فقبضوه، وغسلوه، وكفنوه، وحنظوه وحفروا له ولحدوه، وصلوا عليه، ثم أدخلوه قبره، فوضعوه في قبره، ثم حثوا عليه، ثم قالوا يا بني آدم هذه سنتكم، إسناد صحيح إليه.
وروى ابن عساكر، من طريق شيبان بن فروخ، عن محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« كبرت الملائكة على آدم أربعًا، وكبر أبي بكر على فاطمة أربعًا، وكبر عمر على أبي بكر أربعًا، وكبر صهيب على عمر أربعًا ».
قال ابن عساكر، ورواه غيره عن ميمون فقال: عن ابن عمر.
واختلفوا في موضع دفنه؛ فالمشهور أنه دفن عند الجبل، الذي أهبط منه في الهند.
وقيل بجبل أبي قبيس بمكة.
ويقال: إن نوحًا عليه السلام، لما كان زمن الطوفان، حمله هو وحواء في تابوت، فدفنهما ببيت المقدس. حكى ذلك ابن جرير.
وروى ابن عساكر عن بعضهم، أنه قال: رأسه عند مسجد إبراهيم، ورجلاه عند صخرة بيت المقدس، وقد ماتت بعده حواء بسنة واحدة.
واختلف في مقدار عمره عليه السلام، فقدَّمنا في الحديث، عن ابن عباس، وأبي هريرة مرفوعًا، أن عمره اكتتب في اللوح المحفوظ ألف سنة.
وهذا لا يعارضه ما في التوارة، من أنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة، لأن قولهم هذا، مطعون فيه مردود، إذا خالف الحق الذي بأيدينا مما هو المحفوظ عن المعصوم.
وأيضًا فإن قولهم هذا، يمكن الجمع بينه وبين ما في الحديث، فإن ما في التوراة إن كان محفوظًا، محمول على مدة مقامه في الأرض بعد الإهباط، وذلك تسعمائة وثلاثون سنة شمسية، وهي بالقمرية تسعمائة وسبع وخمسون سنة، ويضاف إلى ذلك ثلاث وأربعون سنة، مدة مقامه في الجنة قبل الإهباط، على ما ذكره ابن جرير، وغيره، فيكون الجميع ألف سنة.
وقال عطاء الخراساني: لما مات آدم بكت الخلائق عليه سبعة أيام. رواه ابن عساكر.
فلما مات آدم عليه السلام، قام بأعباء الأمر بعده ولده شيث عليه السلام. وكان نبيًا بنص الحديث، الذي رواه ابن حبان في (صحيحه)، عن أبي ذر مرفوعًا، أنه أنزل عليه خمسون صحيفة، فلما حانت وفاته، أوصى إلى ابنه أنوش، فقام بالأمر بعده، ثم بعده ولده قينن.
ثم من بعده ابنه مهلاييل، وهو الذي يزعم الأعاجم من الفرس، أنه ملك الأقاليم السبعة، وأنه أول من قطع الأشجار، وبنى المدائن، والحصون الكبار. وأنه هو الذي بنى مدينة بابل، ومدينة السوس الأقصى.
وأنه قهر إبليس وجنوده، وشردهم عن الأرض إلى أطرافها، وشعاب جبالها، وأنه قتل خلقًا من مردة الجن، والغيلان، وكان له تاج عظيم، وكان يخطب الناس، ودامت دولته أربعين سنة.
فلما مات، قام بالأمر بعده ولده يرد، فلما حضرته الوفاة، أوصى إلى ولده خنوخ، وهو إدريس عليه السلام، على المشهور.

قصة قابيل وهابيل‏

قصة قابيل وهابيل‏
قال الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [المائدة: 27- 31] .
قد تكلمنا على هذه القصة، في سورة المائدة، في التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد.
ولنذكر هنا ملخص ما ذكره أئمة السلف في ذلك، فذكر السدي، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة:
أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الأخرى، وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل، وكان أكبر من هابيل، وأخت هابيل أحسن، فأراد هابيل أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانًا.
وذهب آدم ليحج إلى مكة، واستحفظ السماوات على بنيه، فأبين، والأرضين، والجبال فأبين، فتقبل قابيل بحفظ ذلك.
فلما ذهب قربا قربانهما، فقرب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه، فنزلت نار، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال: إنما يتقبل الله من المتقين.
وروي عن ابن عباس، من وجوه أخر.
وعن عبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو: وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إليه يده.
وذكر أبو جعفر الباقر أن آدم كان مباشرًا لتقربهما القربان، والتقبل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تقبل منه لأنك دعوت له، ولم تدع لي، وتوعد أخاه فيما بينه وبينه، فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي، فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به، فلما ذهب إذا هو به فقال له: تقبل منك، ولم يتقبل مني، فقال: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فغضب قابيل عندها، وضربه بحديدة كانت معه فقتله.
وقيل: إنه إنما قتله بصخرة، رماها على رأسه، وهو نائم، فشدخته.
وقيل: بل خنقه خنقًا شديدًا وعضًا، كما تفعل السباع فمات. والله أعلم.
وقوله له لما توعده بالقتل: { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 28] .
دل على خلق حسن، وخوف من الله تعالى، وخشية منه، وتورع أن يقابل أخاه بالسوء الذي أراد منه أخوه مثله.
ولهذا ثبت في (الصحيحين) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
« إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار. قالوا يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟
قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ».
وقوله: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 29] .
أي: إني أريد ترك مقاتلتك، وإن كنت أشد منك وأقوى، إذ قد عزمت على ما عزمت عليه، أن تبوء بإثمي وإثمك، أي تتحمل إثم قتلي مع ما لك من الآثام المتقدمة قبل ذلك.
قاله مجاهد، والسدي، وابن جرير، وغير واحد.
وليس المراد أن آثام المقتول تتحول بمجرد قتله إلى القاتل، كما قد توهمه بعض. قال: فإن ابن جرير حكى الإجماع على خلاف ذلك.
وأما الحديث الذي يورده بعض من لا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
« ما ترك القاتل على المقتول من ذنب } فلا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث، بسند صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، أيضًا.
ولكن قد يتفق في بعض الأشخاص، يوم القيامة، يطالب المقتول القاتل، فتكون حسنات القاتل لا تفي بهذه الظلمة، فتحول من سيئات المقتول إلى القاتل. كما ثبت به الحديث الصحيح في سائر المظالم والقتل من أعظمها، والله أعلم. وقد حررنا هذا كله في التفسير، ولله الحمد.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني، قال: كن كابن آدم ». ورواه ابن مردويه، عن حذيفة بن اليمان، مرفوعًا، وقال: كن كخير ابني آدم.
وروى مسلم، وأهل السنن، إلا النسائي، عن أبي ذر نحو هذا.
وأما الآخر فقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ووكيع، قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل ». ورواه الجماعة سوى أبي داود، من حديث الأعمش به.
وهكذا روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وإبراهيم النخعي، أنهما قالا مثل هذا سواء.
وبجبل قاسيون شمالي دمشق مغارة يقال لها: مغارة الدم، مشهورة بأنها المكان الذي قتل قابيل أخاه هابيل عندها، وذلك مما تلقوه عن أهل الكتاب، فالله أعلم بصحة ذلك.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير، وقال: إنه كان من الصالحين، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وهابيل، وأنه استحلف هابيل، أن هذا دمه فحلف له، وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء، فأجابه إلى ذلك.
وصدقه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه وأبا بكر، وعمر، يزورون هذا المكان في كل يوم خميس.
وهذا منام لو صح عن أحمد بن كثير هذا، لم يترتب عليه حكم شرعي. والله أعلم.
وقوله تعالى: { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [المائدة: 31] .
ذكر بعضهم: أنه لما قتله حمله على ظهره سنة. وقال آخرون: حمله مائة سنة، ولم يزل كذلك حتى بعث الله غرابين.
قال السدي: بإسناده عن الصحابة، أخوين فتقاتلا، فقتل أحدهما الآخر، فلما قتله عمد إلى الأرض، يحفر له فيها، ثم ألقاه، ودفنه، وواراه، فلما رآه يصنع ذلك، قال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي، ففعل مثل ما فعل الغراب، فواراه ودفنه.
وذكر أهل التواريخ، والسير، أن آدم حزن على ابنه هابيل حزنًا شديدًا، وأنه قال في ذلك شعرًا، وهو قوله فيما ذكره ابن جرير، عن ابن حميد:
تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم * وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم:
أبا هابيل قد قتلا جميعا * وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كان منها * على خوف فجابها يصيح
وهذا الشعر فيه نظر. وقد يكون آدم عليه السلام قال كلامًا يتحزن به بلغته، فألفه بعضهم إلى هذا. وفيه أقوال، والله أعلم.
وقد ذكر مجاهد: أن قابيل عوجل بالعقوبة يوم قتل أخاه، فعلقت ساقه إلى فخذه، وجعل وجهه إلى الشمس كيفما دارت، تنكيلًا به وتعجيلًا لذنبه، وبغيه، وحسده لأخيه لأبويه.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
« ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ».
والذي رأيته في الكتاب الذي بأيدي أهل الكتاب الذين يزعمون أنه التوراة، أن الله عز وجل أجله وأنظره، وأنه سكن في أرض نود في شرقي عدن، وهم يسمونه قنين، وأنه ولد له خنوخ، ولخنوخ عندر، ولعندر محوايل، ولمحوايل متوشيل، ولمتوشيل لأمك، وتزوج هذا امرأتين عدا وصلا، فولدت عدا ولدًا اسمه إبل، وهو أول من سكن القباب، واقتنى المال.
وولدت أيضًا نوبل، وهو أول من أخذ في ضرب الونج، والصنج، وولدت صلا، ولدًا اسمه توبلقين، وهو أول من صنع النحاس والحديد، وبنتًا اسمها نعمى.
وفيها أيضًا: أن آدم طاف على امرأته فولدت غلامًا، ودعت اسمه: شيث. وقالت من أجل أنه قد وهب لي خلفًا من هابيل الذي قتله قابيل.
وولد لشيث: أنوش. قالوا: وكان عمر آدم يوم ولد له شيث مائة وثلاثين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة، وكان عمر شيث يوم ولد له أنوش، مائة وخمسًا وستين، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وسبع سنين.
وولد له: بنون، وبنات غير أنوش، فولد لأنوش: قينان، وله من العمر تسعون سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وخمس عشرة سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان عمر قينان سبعين سنة، ولد له: مهلاييل، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وأربعين سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان لمهلاييل من العمر خمس وستون سنة، ولد له: يرد، وعاش بعد ذلك ثمانمائة وثلاثين سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان ليرد مائة سنة واثنتان وستون سنة، ولد له: خنوخ، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان لخنوخ خمس وستون سنة، ولد له: متوشلح، وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان لمتوشلح مائة وسبع وثمانون سنة، ولد له: لامك، وعاش بعد ذلك سبعمائة واثنين وثمانين سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان للامك من العمر مائة واثنتان وثمانون سنة، ولد له: نوح، وعاش بعد ذلك خمسمائة وخمسًا وتسعين سنة.
وولد له: بنون وبنات، فلما كان لنوح خمسمائة سنة، ولد له بنون: سام، وحام، ويافث، هذا مضمون ما في كتابهم صريحًا.
وفي كون هذه التواريخ محفوظة، فيما نزل من السماء نظر، كما ذكره غير واحد من العلماء طاعنين عليهم في ذلك، والظاهر أنها مقحمة فيها.
ذكرها بعضهم على سبيل الزيادة والتفسير. وفيها غلط كثير، كما سنذكره في مواضعه، إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير في تاريخه، عن بعضهم، أن حواء ولدت لآدم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا. قاله ابن إسحاق وسماهم، والله تعالى أعلم.
وقيل: مائة وعشرين بطنًا، في كل واحد ذكر وأنثى، أولهم: قابيل وأخته قليما، وآخرهم: عبد المغيث وأخته أم المغيث. ثم انتشر الناس بعد ذلك، وكثروا، وامتدوا في الأرض، ونموا، كما قال الله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً } الآية [النساء: 1] .
وقد ذكر أهل التاريخ، أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته من أولاده، وأولاد أولاده، أربعمائة ألف نسمة، والله أعلم.
وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } الآيات [الأعراف: 189 - 190] .
فهذا تنبيه أولًا، بذكر آدم، ثم استطرد إلى الجنس، وليس المراد بهذا ذكر آدم وحواء، بل لما جرى ذكر الشخص، استطرد إلى الجنس، كما في قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [المؤمنون: 12-13] .
وقال تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5] .
ومعلوم أن رجوم الشياطين، ليست هي أعيان مصابيح السماء، وإنما استطرد من شخصها إلى جنسها.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عمر بن إبراهيم، حدثنا قتادة عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
« قال لما ولدت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحارث، فإنه يعيش، فسمته: عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ».
وهكذا رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، في تفاسيرهم عند هذه الآية.
وأخرجه الحاكم في (مستدركه)، كلهم من حديث عبد الصمد، بن عبد الوارث به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم.
ورواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه، فهذه علة قادحة في الحديث أنه روي موقوفًا على الصحابي، وهذا أشبه، والظاهر أنه تلقه من الإسرائيليات.
وهكذا روي موقوفًا على ابن عباس.
والظاهر أن هذا متلقى عن كعب الأحبار، ودوَّنه، والله أعلم.
وقد فسر الحسن البصري هذه الآيات، بخلاف هذا، فلو كان عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه إلى غيره، والله أعلم.
وأيضًا فالله تعالى إنما خلق آدم وحواء، ليكونا أصل البشر، وليبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء، فكيف كانت حواء لا يعيش لها ولد، كما ذكر في هذا الحديث، إن كان محفوظًا.
والمظنون: بل المقطوع به أن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، والصواب وقفه، والله أعلم.
وقد حررنا هذا في كتابنا (التفسير). ولله الحمد.
نعم قد كان آدم وحواء أتقى لله مما ذكر عنهما في هذا، فإن آدم أبو البشر، الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه جنته.
وقد روى ابن حبان في (صحيحه)، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟
قال: « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا ».
قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟
قال: « ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير ».
قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟
قال: « آدم ».
قلت: يا رسول الله نبي مرسل؟
قال: « نعم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلًا ».
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع بن هرمز، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل، وأفضل النبيين آدم، وأفضل الأيام يوم الجمعة، وأفضل الشهور شهر رمضان، وأفضل الليالي ليلة القدر، وأفضل النساء مريم بنت عمران ».
وهذا إسناد ضعيف، فإن نافعًا أبا هرمز كذبه ابن معين، وضعفه أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن حبان، وغيرهم، والله أعلم.
وقال كعب الأحبار: ليس أحد في الجنة له لحية إلا آدم، لحيته سوداء إلى سرته، وليس أحد يكنى في الجنة إلا آدم، كنيته في الدنيا أبو البشر، وفي الجنة أبو محمد.
وقد روى ابن عدي، من طريق سبح ابن أبي خالد، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله مرفوعًا:
« أهل الجنة يدعون بأسمائهم، إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد ».
ورواه ابن عدي أيضًا، من حديث علي بن أبي طالب، وهو ضعيف من كل وجه، والله أعلم.
وفي حديث الإسراء الذي في (الصحيحين): « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مر بآدم، وهو في السماء الدنيا، قال له: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح.
قال: وإذا عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى.
فقلت: يا جبريل ما هذا؟.
قال: هذا آدم، وهؤلاء نسم بنيه. فإذا نظر قبل أهل اليمين، وهم أهل الجنة ضحك، وإذا نظر قبل أهل الشمال، وهم أهل النار بكى ».
هذا معنى الحديث.
وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان عن الحسن، قال: كان عقل آدم مثل عقل جميع ولده.
وقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم:
« فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن » قالوا: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام. وهذا مناسب. فإن الله خلق آدم، وصوره بيده الكريمة، ونفخ فيه من روحه، فما كان ليخلق إلا أحسن الأشباه.
وقد روينا عن عبد الله بن عمر، وابن عمرو أيضًا موقوفًا ومرفوعًا:
« إن الله تعالى لما خلق الجنة، قالت الملائكة: يا ربنا اجعل لنا هذه فإنك خلقت لبني آدم الدنيا، يأكلون فيها، ويشربون، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان ».
وقد ورد الحديث المروي في (الصحيحين)، وغيرهما، من طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« إن الله خلق آدم على صورته ».
وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، فذكروا فيه مسالك كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، والله أعلم.

قصة هود عليه السلام‏

قصة هود عليه السلام‏
وهو هود بن شالخ بن أرفحشذ بن سام بن نوح عليه السلام.
ويقال إن هودًا هو: عابر بن شالخ بن أرفحشذ بن سام بن نوح.
ويقال هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، ذكره ابن جرير وكان من قبيلة يقال لهم: عاد بن عوص بن سام بن نوح، وكانوا عربًا يسكنون الأحفاف، وهي جبال الرمل، وكانت باليمن من عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها: الشحر، واسم واديهم مغيث.
وكانوا كثيرًا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام.
كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [الفجر: 6-7] أي: عاد إرم وهم عاد الأولى.
وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه.
وأما عاد الأولى: فهم عاد { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } [الفجر: 7-8] أي: مثل القبيلة. وقيل مثل العمد، والصحيح الأول كما بيناه في التفسير.
ومن زعم أن إرم مدينة تدور في الأرض، فتارة في الشام، وتارة في اليمن، وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه.
وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه: منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر.
ويقال: إن هودًا عليه السلام أول من تكلم بالعربية.
وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها.
وقال غيره: أول من تكلم بها نوح.
وقيل: آدم وهو الأشبه قبل غير ذلك، والله أعلم.
ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام: العرب العاربة وهم قبائل كثيرة منهم: عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجديس، وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم.
وأما العرب المستعربة: فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة، والبيان. وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن عادًا وهم عاد الأولى كانوا من عبد الأصنام بعد الطوفان، وكان أصنامهم ثلاثة: صدا، وصمودا، وهرا. فبعث الله فيهم أخاهم هودًا عليه السلام فدعاهم إلى الله كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 65-72] .
وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود:
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [هود: 50 -60] .
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون بعد قصة قوم نوح:
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [31-41] .
وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضًا:
{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [123-140] .
وقال تعالى في سورة فصلت:
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } [15-16] .
وقال تعالى في سورة الأحقاف: {
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [21-25] .
وقال تعالى في الذاريات: { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات: 41-42] .
وقال تعالى في النجم: { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [النجم: 50-55] .
وقال تعالى في سورة اقتربت: { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر: 18-22] .
وقال في الحاقة: { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [6-8] .
وقال في سورة الفجر: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [6-14] .
وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها، من كتابنا (التفسير)، ولله الحمد والمنة.
وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة، وإبراهيم، والفرقان، والعنكبوت، وفي سورة (ص)، وفي سورة (ق)، ولنذكر مضمون القصة مجموعًا من هذه السياقات مع ما يضاف إلى ذلك من الأخبار، وقد قدمنا أنهم أول الأمم عبدوا الأصنام بعد الطوفان، وذلك بين في قوله لهم: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف: 69] أي: جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة، والشدة، والبطش.
وقال في المؤمنون: { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } [المؤمنون: 31] وهم قوم هود على الصحيح.
وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله: { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } [المؤمنون: 41] قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة.
{ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم. كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الأيكة، فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات، ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود.
والمقصود أن عادًا كانوا عربًا جفاة كافرين، عتاة متمردين في عبادة الأصنام، فأرسل الله فيهم رجلًا منهم يدعوهم إلى الله، وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذبوه، وخالفوه، وتنقصوه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلما أمرهم بعبادة الله، ورغبهم في طاعته واستغفاره، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة.
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [الأعراف: 66] أي: هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك.
{ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 67] أي ليس الأمر كما تظنون، ولا ما تعتقدون.
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ، وعدم الزيادة فيه، والنقص منه، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة، جامعة مانعة، لا لبس فيها ولا اختلاف، ولا اضطراب.
وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، لا يبتغي منهم أجرًا ولا يطلب منهم جعلًا، بل هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه، وأمره إليه.
ولهذا { يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [هود: 51] أي ما لكم عقل تميزون به، وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين، الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحًا وأهلك من خالفه من الخلق، وها أنا أدعوكم إليه، ولا أسألكم أجرًا عليه، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع.
ولهذا قال مؤمن يس: { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 21-22] .
وقال قوم هود له فيما قالوا: { قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ... } [هود: 53 -54] يقولون: ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق، ما جئت به وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته، ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه، وعندنا إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك، فاعتراك جنون بسبب ذلك.
وهو قولهم: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } [هود: 54-55] .
وهذا تحدٍ منه لهم، وتبرٍ من آلهتهم، وتنقص منه لها، وبيان أنها لا تنفع شيئًا ولا تضر، وأنها جماد حكمها حكمه، وفعلها فعله، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر، وتنفع، وتضر، فها أنا بريء منها، لاعن لها.
{ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } أنتم جميعًا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه، وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين، فإني لا أبالي بكم، ولا أفكر فيكم، ولا أنظر إليكم.
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود: 56] أي: أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه، فلست أبالي مخلوقًا سواه، ولست أتوكل إلا عليه، ولا أعبد إلا إياه.
وهذا وحده برهان قاطع على أن هودًا عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله، لأنهم لم يصلوا إليه بسوء، ولا نالوا منه مكروهًا، فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله: { يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } [يونس: 71]
وهكذا قال الخليل عليه السلام: {... وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 80-83] .
{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ } [المؤمنون: 33-35] .
استبعدوا أن يبعث الله رسولًا بشريًا، وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديمًا وحديثًا كما قال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } [يونس: 2] .
وقال تعالى: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا } [الإسراء: 94-95] .
ولهذا قال لهم هود عليه السلام { أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } [الأعراف: 63] أي: ليس هذا بعجيب، فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله: { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون: 35-39] .
استبعدوا المعاد، وأنكروا قيام الأجساد، بعد صيرورتها ترابًا وعظامًا، وقالوا: هيهات هيهات.
أي: بعيد بعيد هذا الوعد، إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحي، وما نحن بمبعوثين.
أي: يموت قوم، ويحيى آخرون، وهذا هو اعتقاد الدهرية، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة، أرحام تدفع، وأرض تبلع.
وأما الدورية: فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار، بعد كل سنة وثلاثين ألف سنة، وهذا كله كذب، وكفر، وجهل، وضلال، وأقوال باطلة، وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم، الذين لا يعقلون، ولا يهتدون، كما قال تعالى: { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [الأنعام: 113] .
وقال لهم فيما وعظهم به: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [الشعراء: 128-129] .
يقول لهم: أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيمًا هائلًا كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها، لأنه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } [الفجر: 6-7 -8] فعاد إرم، هم عاد الأولى، الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام.
ومن زعم أن إرم مدينة من ذهب وفضة، وهي تتنقل في البلاد، فقد غلط وأخطأ، وقال ما لا دليل عليه.
وقوله: { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } قيل: هي القصور. وقيل: بروج الحمام، وقيل: مآخذ الماء.
{ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [الشعراء: 129] أي: رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار، أعمارًا طويلة.
{ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء: 130-135] .
وقالوا له مما قالوا: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الأعراف: 70] أي: أجئتنا لنعبد الله وحده، ونخالف آباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه، فإن كنت صادقًا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال، فإنا لا نؤمن بك، ولا نتبعك، ولا نصدقك.
كما قالوا: {... سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [الشعراء: 136- 138] .
أما على قراءة فتح الخاء؛ فالمراد به اختلاق الأولين، أي: أن هذا الذي جئت به إلا اختلاق منك، وأخذته من كتب الأولين. هكذا فسره غير واحد من الصحابة، والتابعين.
وأما على قراءة ضم الخاء واللام، فالمراد به الدين، أي: أن هذا الدين الذي نحن عليه، إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا، ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا نزال متمسكين به.
ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية، قولهم: { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
قال: {... قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } [الأعراف: 71] أي: قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له، بعبادة أصنام أنتم نحتموها، وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم.
{ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أي: لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلًا، ولا برهانًا، وإذا أبيتم قبول الحق، وتماديتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه، أم لا، فانتظروا الأن عذاب الله الواقع بكم، وبأسه الذي لا يرد، ونكاله الذي لا يصد.
وقال تعالى: { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون: 39 - 41] .
وقال تعالى: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [الأحقاف: 22 - 25] .
وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية، كما تقدم مجملًا ومفصلًا كقوله: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 72] .
وكقوله: { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [هود: 58-60] .
وكقوله: { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون: 41] .
وقال تعالى: { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء: 139-140] .
وأما تفصيل إهلاكهم، فلما قال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأحقاف: 24] كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب، أنهم كانوا ممحلين مسنتين، فطلبوا السقيا فرأوا عارضًا في السماء، وظنوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب.
ولهذا قال تعالى: { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ } أي: من وقوع العذاب. وهو قولهم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ومثلها في الأعراف.
وقد ذكر المفسرون وغيرهم ههنا الخبر الذي ذكره الإمام محمد بن إسحق بن بشار قال: فلما أبو إلا الكفر بالله عز وجل، أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك. قال: وكان الناس إذاجهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج منه إنما، يطلبونه بحرمه ومكان بيته، وكان معروفًا عند أهل ذلك الزمان.
وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلًا يقال له: معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري.
قال: فبعث عاد وفدًا قريبًا من سبعين رجلًا ليستقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، يغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية، وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيى منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا فيعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به فقال:
ألا يا قيل ويحك فم فهيم * لعل الله يمنحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادًا * قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم أياما
وإن الوحش يأتيهم جهارا * ولا يخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما
قال فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثًا بيضاء، وحمراء، وسوداء. ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب.
فقال: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه: اخترت رمادًا رمددًا، لا تبقى من عاد أحدًا، لا والدًا يترك ولا ولدًا، إلا جعلته همدًا، إلا بني اللودية الهمدا. قال: وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم.
قال: ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم، هم عاد الآخرة. قال: وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له: المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى:
{ بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها } أي: كل شيء أمرت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها: فهد.
فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ما رأيت يا فهد؟
قالت: رأيت ريحًا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها.
{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا }، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك.
قال: واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود، ويلتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن، فيما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة، وذكر تمام القصة.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا في (مسنده)، يشبه هذه القصة، فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن يزيد البكري، قال:
خرجت أشكو العلا بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه.
قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهًا، قال: فجلست. قال: فدخل منزله - أو قال - رحله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت.
فقال: « هل كان بينكم وبين بني تميم شيء؟ »
فقلت: نعم. وكانت لنا الدبرة عليهم.
ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت يا رسول الله: إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزًا فاجعل الدهناء، فإنها كانت لنا.
قال: فحميت العجوز واستفزت، وقالت يا رسول الله: فإلى أين تضطر مضرك؟
قال: فقلت إن مثلي ما قال الأول، معزى حملت حتفها، حملت هذه الأمة، ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد.
قال: هيه، وما وافد عاد، وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه.
قلت: إن عادًا قحطوا، فبعثوا وفدًا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرًا يسقيه الخمر، ويغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة.
فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود، فنودي منها اختر، فأومى إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رمادًا رمددًا لا تبقى من عاد أحدًا.
قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح، إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا.
قال: أبو وائل وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وفدًا لهم، قالوا: لا تكن كوافد عاد.
وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به.
ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر، عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجه.
وهكذا أورد هذا الحديث، وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين، كابن جرير وغيره.
وقد يكون هذا السياق لإهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم، كما سيأتي. وعاد الأولى قبل الخليل.
وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى، لا يشبه كلام المتقدمين.
وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر.
وقد قال ابن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من أئمة التابعين: هي الباردة والعاتية، الشديدة الهبوب { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة: 7] أي: كوامل متتابعات. قيل: كان أولها الجمعة. وقيل: الأربعاء.
{ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } شبههم بأعجاز النخل، التي لا رؤوس لها، وذلك لأن الريح كانت تجيء إلى أحدهم فتحمله، فترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه، فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس.
كما قال: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } [القمر: 19] أي: في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه عليهم.
{ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [القمر: 20] ومن قال: إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء، وتشاءم به لهذا الفهم، فقد أخطأ وخالف القرآن، فإنه قال في الآية الأخرى: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } [فصلت: 16] .
ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها، لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشؤومة، وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات أي عليهم.
وقال تعالى: { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } [الذاريات: 41] أي: التي لا تنتج خيرًا، فإن الريح المفردة لا تنثر سحابًا، ولا تلقح شجرًا، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها.
ولهذا قال: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات: 42] أي: كالشيء البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية.
وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
« نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ».
وأما قوله تعالى: { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأحقاف: 21] فالظاهر أن عادًا هذه هي عاد الأولى، فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود، وهم الأولى.
ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية. ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضي الله عنها.
وأما قوله: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } [الأحقاف: 24] فإن عادًا لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب، ظنوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب، اعتقدوه رحمة، فإذا هو نقمة، رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر.
قال الله تعالى: { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ } أي: من العذاب.
ثم فسره بقوله: { ررِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية، الباردة، الشديدة الهبوب، التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية، فلم تبق منهم أحدًا بل تتبعتهم، حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال، والغيران.
فتلفهم، وتخرجهم، وتهلكهم، وتدمر عليهم البيوت المحكمة، والقصور المشيدة، فكما منوا بقوتهم وشدتهم، وقالوا من أشد منا، قوة سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة، وأقدر عليهم وهو الريح العقيم.
ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الأمر سحابة، ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم، فأرسلها الله عليهم شررًا ونارًا، كما ذكره غير واحد.
ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين، وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشد ما يكون من العذاب، بالأشياء المختلفة المتضادة مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدثنا ابن فضل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها، إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها، قالوا: هذا عارض ممطرنا، فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة ».
وقد رواه الطبراني، عن عبدان بن أحمد، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما فتح الله على عاد من الريح الأمثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر، فلما رآها أهل الحضر قالوا: هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا. وكان أهل البوادي فيها، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ».
قال: عتت على خزائنها حتى خرجت من خلال الأبواب. قلت: وقال غيره خرجت بغير حساب.
والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر. ثم اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب، والله أعلم.
وظاهر الآية: أنهم رأوا عارضًا، والمفهوم منه لمعة السحاب، كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري، إن جعلناه مفسرًا لهذه القصة.
وأصرح منه في ذلك، ما رواه مسلم في (صحيحه)، حيث قال: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال:
« اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به ».
قالت: وإذا عببت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه. فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال:
« لعله يا عائشة كما قال قوم عاد { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } [الأحقاف: 24]  ».
رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث ابن جريج.
طريق أخرى، قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو وهو ابن الحارث، أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا قط، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم.
وقالت: كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، فقال:
« يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم نوح بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ».
فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين، كما أشرنا إليه أولًا، فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الأحقاف خبرًا عن قوم عاد الثانية، وتكون بقية السياقات في القرآن خبرًا عن عاد الأولى، والله أعلم بالصواب.
وهكذا رواه مسلم، عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري، وأبو داود من حديث ابن وهب.
وقدمنا حج هود عليه السلام، عند ذكر حج نوح عليه السلام.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن. وذكر آخرون أنه بدمشق وبجامعها مكان في حائطه القبلي، يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام، والله أعلم.

قصة نوح عليه السلام‏

قصة نوح عليه السلام‏
هو نوح، بن لامك، بن متوشلخ، بن خنوخ - وهو إدريس - بن يرد، بن مهلاييل، بن قينن، بن أنوش، بن شيث، بن آدم أبي البشر عليه السلام.
كان مولده بعد وفاة آدم، بمائة سنة وست وعشرين سنة فيما ذكره ابن جرير وغيره.
وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم، يكون بين مولد نوح، وموت آدم، مائة وست وأربعون سنة، وكان بينهما عشرة قرون، كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في (صحيحه):
حدثنا محمد بن عمر بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، سمعت أبا سلام، سمعت أبا أمامة، أن رجلًا قال: يا رسول الله: أنبي كان آدم؟
قال: نعم مكلم.
قال: فكم كان بينه وبين نوح؟
قال: عشرة قرون.
قلت، وهذا على شرط مسلم، ولم يخرجه.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح، عشرة قرون كلهم على الإسلام، فإن كان المراد بالقرن مائة سنة - كما هو المتبادر عند كثير من الناس - فبينهما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفى أن يكون أكثر، باعتبار ما قيد به ابن عباس بالإسلام، إذ قد يكون بينهما قرون أخر متأخرة، لم يكونوا على الإسلام، لكن حديث أبي أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون.
وزادنا ابن عباس أنهم كلهم كانوا على الإسلام. وهذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ، وغيرهم من أهل الكتاب، أن قابيل وبنيه، عبدوا النار، والله أعلم.
وإن كان المراد بالقرن، الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [الإسراء: 37] .
وقوله: { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } [المؤمنون: 31] .
وقال تعالى: { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } [الفرقان: 38] .
وقال: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } [مريم: 74] .
وكقوله عليه السلام: « خير القرون قرني... » الحديث.
فقد كان الجيل قبل نوح، يعمرون الدهر الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم ونوح، ألوف من السنين، والله أعلم.
وبالجملة؛ فنوح عليه السلام، إنما بعثه الله تعالى، لما عبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول، بعث إلى أهل الأرض، كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة. وكان قومه يقال لهم بنو راسب، فيما ذكره ابن جبير، وغيره.
واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث؛ فقيل: كان ابن خمسين سنة.
وقيل: ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.
وقيل: ابن أربعمائة وثمانين سنة.
حكاها ابن جرير، وعزا الثالثة منها إلى ابن عباس.
وقد ذكر الله قصته، وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز.
ففي الأعراف، ويونس، وهود، والأنبياء، والمؤمنون، والشعراء، والعنكبوت، والصافات، واقتربت، وأنزل فيه سورة كاملة، فقال في سورة الأعراف: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } [59 - 64] .
وقال في سورة يونس: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } [71 - 73] .
وقال تعالى في سورة هود:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 25- 49] .
وقال تعالى في سورة الأنبياء: { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنبياء: 76-77] .
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [المؤمنون: 23-30] .
وقال تعالى في سورة الشعراء: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء: 105-122] .
وقال تعالى في سورة العنكبوت: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 14-15] .
وقال تعالى في سورة الصافات: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } [الصافات: 75-82] .
وقال تعالى في سورة اقتربت: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر: 9-17] .
وقال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا * قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا } [نوح السورة بتمامها] .
وقد تكلمنا على كل موضع من هذه السورة في التفسير، وسنذكر مضمون القصة مجموعًا من هذه الأماكن المتفرقة، ومما دلت عليه الأحاديث، والآثار.
وقد جرى ذكره أيضًا في مواضع متفرقة من القرآن، فيها مدحه وذم من خالفه.
فقال تعالى في سورة النساء: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 163-165] .
وقال في سورة الأنعام: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } الآيات [الأنعام: 83-87] .
وتقدمت قصته في الأعراف.
وقال في سورة براءة: { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [التوبة:70] .
وتقدمت قصته في يونس، وهود.
وقال في سورة إبراهيم: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [إبراهيم:9] .
وقال في سورة سبحان: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء: 3] .
وقال فيها أيضا: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } [الإسراء: 17] .
وتقدمت قصته في الأنبياء، والمؤمنون، والشعراء، والعنكبوت.
وقال في سورة الأحزاب: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } [الأحزاب: 7] .
وقال في سورة ص: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } [ص: 12-14] .
وقال في سورة غافر: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } [غافر: 5-6] .
وقال في سورة الشورى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } [الشورى: 13] .
وقال تعالى في سورة ق: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ق: 12-14] .
وقال في الذاريات: { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [الذاريات: 46] .
وقال في النجم: { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } [النجم: 52] .
وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة.
وقال تعالى في سورة الحديد: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 26] .
وقال تعالى في سورة التحريم: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [التحريم: 10] .
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذًا من الكتاب، والسنة، والآثار فقد قدمنا عن ابن عباس أنه كان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. رواه البخاري.
وذكرنا أن المراد بالقرن: الجيل، أو المدة على ما سلف، ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام، وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عند تفسير قوله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح: 23] .
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم عبدت.
قال ابن عباس: وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، وهكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة، ومحمد بن إسحاق.
وقال ابن جرير في (تفسيره): حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وروى ابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير أنه قال: ود، ويغوث، ويعوق، وسواع، ونسر: أولاد آدم. وكان ود أكبرهم، وأبرهم به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب، عن أبي المطهر قال:
ذكروا عند أبي جعفر هو الباقر، وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب قال:
فلما انفتل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلب، أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله.
قال: ذكر ودًا رجلًا صالحًا، وكان محبوبًا في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان.
ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فصور لهم مثله.
قال: ووضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره.
قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالًا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
قال: فمثَّل لكل أهل بيت تمثالًا مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به.
قال: وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به، قال: وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله، أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير الله (ود) الصنم، الذي سموه ودًا.
ومقتضى هذا السياق: أن كل صنم من هذه، عبده طائفة من الناس. وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل.
ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جدًا، قد ذكرنها في مواضعها من كتابنا (التفسير)، ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في (الصحيحين) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة، وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، قال:
« أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل ».
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض، وعم البلاد بعبادة الأصنام فيها، بعث الله عبده ورسوله نوحًا عليه السلام، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه.
فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت في (الصحيحين) من حديث أبي حيان، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله 
عليه وسلم في حديث الشفاعة قال:
« فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟
فيقول: ربي قد غضب غضبًا شديدًا، لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل؟
فيقول: ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي... ».
وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده البخاري في قصة نوح.
فلما بعث الله نوحًا عليه السلام، دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده، لا شريك له، وأن لا يعبدوا معه صنمًا، ولا تمثالًا، ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل، الذين هم كلهم من ذريته.
كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَتَهُ هُمُ البَاقِيْن } [الصافات: 77] .
وقال فيه، وفي إبراهيم: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [الحديد: 26] . أي: كل نبي من بعد نوح، فمن ذريته وكذلك إبراهيم.
قال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36] .
وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45] .
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] .
ولهذا قال نوح لقومه: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 59] .
وقال: { أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26] .
وقال: { يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 23] .
وقال: { يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } [نوح: 2-14] الآيات الكريمات.
فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل، والنهار، والسر، والإجهار، بالترغيب تارة، والترهيب أخرى. وكل هذا فلم ينجح فيهم بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان، وعبادة الأصنام والأوثان، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به، وتوعدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم.
{ قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِهِ } أي: السادة الكبراء منهم:
{ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف:60-61] أي: لست كما تزعمون من أني ضال، بل على الهدى المستقيم، رسول من رب العالمين أي: الذي يقول للشيء كن فيكون.
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 62] وهذا شأن الرسول أن يكون بليغًا أي فصيحًا ناصحًا، أعلم الناس بالله عز وجل.
وقالوا له فيما قالوا: { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } [هود: 27] ، تعجبوا أن يكون بشرًا رسولًا، وتنقصوا بمن اتبعه، ورأوهم أراذلهم.
وقد قيل: إنهم كانوا من أقياد الناس، وهم ضعفاؤهم كما قال هرقل وهم أتباع الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق.
وقولهم: « بادي الرأي » أي: بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية، وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية، ولا فكر، ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا للصديق:
« ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم » ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضًا سريعة من غير نظر، ولا روية، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه، وقال:
« يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر » رضي الله عنه.
وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به: { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } [هود: 27] أي: لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان، ولا مزية علينا { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [هود:27- 28] .
وهذا تلطف في الخطاب معهم، وترفق بهم في الدعوة إلى الحق، كما قال تعالى: { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه: 44] .
وقال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] .
وهذا منه يقول لهم: { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } [هود: 28] أي: النبوة والرسالة.
{ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي: فلم تفهموها، ولم تهتدوا إليها.
{ أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي: أنغصبكم بها، ونجبركم عليها.
{ وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } أي: ليس لي فيكم حيلة، والحالة هذه.
{ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى } [هود: 29] أي: لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم، ما ينفعكم في دنياكم، وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله، الذي ثوابه خير لي، وأبقى مما تعطونني أنتم.
وقوله: { اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا } [هود: 29] كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك.
وقال: { إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } أي: فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى الله عز وجل.
ولهذا قال: { وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا }
ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين كعمار، وصهيب، وبلال، وخباب، وأشباههم، نهاه الله عن ذلك، كما بيناه في سورتي الأنعام والكهف.
{ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } أي: بل أنا عبد رسول، لا أعلم من علم الله، إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله.
{ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ } يعني من أتباعه.
{ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم، عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم، وسيجازيهم على ما في نفوسهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
كما قالوا في المواضع الأخر: {..أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ » [الشعراء: 111 - 115] .
وقد تطاول الزمان، والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [العنكبوت: 14] .
أي: ومع هذه المدة الطويلة، فما آمن به إلا القليل منهم، وكان كل ما انقرض جيل، وصُّوا من بعدهم بعدم الإيمان به، ومحاربته، ومخالفته.
وكان الوالد إذا بلغ ولده، وعقل عنه كلامه، وصَّاه فيما بينه وبينه، أن لا يؤمن بنوح أبدًا، ما عاش، ودائمًا ما بقي، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان، واتباع الحق، ولهذا قال: { وَلَا يَلِدُوْا إِلَّا فَاجِرًَا كَفَّارًَا }.
ولهذا قالوا: { قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [هود: 32 - 33] .
أي: إنما يقدر على ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء، ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون.
{ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [هود: 34] .
أي: من يرد الله فتنته، فلن يملك أحد هدايته، هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم العليم، بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } [هود: 36] تسلية له عما كان منهم إليه.
{ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وهذه تعزية لنوح عليه السلام، في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن أي لا يسوأنك ما جرى؛ فإن النصر قريب والنبأ عجيب.
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } [هود: 37] وذلك أن نوحًا عليه السلام، لما يئس من صلاحهم، وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته، وتكذيبه، بكل طريق من فعال، ومقال، دعا عليهم دعوة غضب، فلبى الله دعوته، وأجاب طلبته، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الصافات: 75 - 76] .
وقال تعالى: { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الأنبياء: 76] .
وقال تعالى: { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 117] .
وقال تعالى: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [القمر: 10] .
وقال تعالى: { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون: 39] .
وقال تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح: 25 - 27] .
فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم، وفجورهم، ودعوة نبيهم عليهم، فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك؛ وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها، ولا يكون بعدها مثلها.
وقدم الله تعالى إليه أنه: إذا جاء أمره، وحلَّ بهم بأسه، الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أنه لا يعاوده فيهم، ولا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا قال: { وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } [هود: 37- 38] .
أي: يستهزئون به استعباد الوقوع ما توعدهم به.
{ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود: 38] .
أي: نحن الذين نسخر منكم، ونتعجب منكم، في استمراركم على كفركم، وعنادكم، الذي يقتضي وقوع العذاب بكم، وحلوله عليكم.
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم } [هود: 39] .
وقد كانت سجاياهم: الكفر الغليظ، والعناد البالغ في الدنيا. وهكذا في الآخرة، فإنهم يجحدون أيضًا، أن يكون جاءهم رسول.
كما قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« يجيء نوح عليه السلام وأمته، فيقول الله عز وجل: هل بلغت؟
فيقول: نعم أي رب.
فيقول لأمته: هل بلغكم؟
فيقولون: لا ما جاءنا من نبي.
فيقول لنوح: من يشهد لك؟
فيقول: محمد وأمته، فتشهد أنه قد بلغ »
وهو قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143] .
والوسط: العدل. فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق، المصدوق، بأن الله قد بعث نوحًا بالحق، وأنزل عليه الحق، وأمره به، وأنه بلغه إلى أمته، على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئًا مما ينفعهم في دينهم، إلا وقد أمرهم به، ولا شيئًا مما قد يضرهم، إلا وقد نهاهم عنه، وحذرهم منه.
وهكذا شأن جميع الرسل، حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانهم، حذرًا عليهم، وشفقة، ورحمة بهم.
كما قال البخاري: حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال:
« إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه. لقد أنذره نوح قومه ولكني أقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور ».
وهذا الحديث في (الصحيحين) أيضًا، من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
« ألا أحدثكم عن الدجال حديثًا، ما حدث به نبي قومه أنه أعور، وأنه يجيء معه بمثال الجنة، والنار، والتي يقول عليها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه ». لفظ البخاري.
وقد قال بعض علماء السلف: لما استجاب الله له أمره، أن يغرس شجرًا ليعمل منه السفينة، فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائة أخرى، وقيل: في أربعين سنة، فالله أعلم.
قال محمد بن إسحق، عن الثوري: وكان من خشب الساج.
وقيل: من الصنوبر. وهو نص التوراة.
قال الثوري: وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعًا، وعرضها خمسين ذراعاَ، وأن يطلى ظاهرها وباطنها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤًا أزور يشق الماء.
وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، في عرض خمسين ذراعًا، وهذا الذي في التوراة، على ما رأيته.
وقال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة.
وعن ابن عباس: ألف ومائتا ذراع، في عرض ستمائة ذراع.
وقيل: كان طولها ألفي ذراع، وعرضها مائة ذراع.
قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعًا، وكانت ثلاث طبقات، كل واحدة عشر أذرع؛ فالسفلى: للدواب، والوحوش، والوسطى: للناس، والعليا: للطيور. وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها، مطبق عليها.
قال الله تعالى: { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [المؤمنون: 26 - 27] .
أي: بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها.
{ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } [المؤمنون: 27] .
فتقدم إليه بأمره العظيم العالي، أنه إذا جاء أمره، وحلَّ بأسه، أن يحمل في هذه السفينة، من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها، لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي أهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم: أي إلا من كان كافرًا فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم، الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد، كما قدمنا بيانه قبل.
والمراد بالتنور عند الجمهور: وجه الأرض أي نبعت الأرض من سائر أرجائها، حتى نبعت التنانير التي هي محال النار.
وعن ابن عباس: التنور عين في الهند.
وعن الشعبي: بالكوفة.
وعن قتادة: بالجزيرة.
وقال علي بن أبي طالب: المراد بالتنور فلق الصبح، وتنوير الفجر، أي إشراقه وضياؤه، أي عند ذلك: فاحمل فيها من كل زوجين اثنين، وهذا قول غريب.
وقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } [هود: 40] .
هذا أمر بأن عند حلول النقمة بهم، أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.
وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أُمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، ومما لا يؤكل زوجين ذكرًا وأنثى، وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق اثنين إن جعلنا ذلك مفعولًا به، وأما إن جعلناه توكيدًا لزوجين، والمفعول به محذوف، فلا ينافي، والله أعلم.
وذكر بعضهم، ويروى عن ابن عباس: أن أول ما دخل من الطيور الدرة، وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار. ودخل إبليس متعلقًا بذنب الحمار.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن، أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟
فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض.
ثم شكوا الفارة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا.
فأوحى الله إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها ». هذا مرسل.
وقوله { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي: من استجيبت فيهم الدعوة النافذة، ممن كفر، فكان منهم ابنه يام الذي غرق، كما سيأتي بيانه.
{ وَمَنْ آمَنَ } أي: واحمل فيها من آمن بك من أمتك.
قال الله تعالى: { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة، ليلًا ونهارًا بضروب المقال، وفنون التلطفات، والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعد أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة؛ فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسًا معهم نساؤهم.
وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسًا.
وقيل: كانوا عشرة.
وقيل: إنما كانوا نوحًا وبنيه الثلاثة، وكنائنته الأربع، بامرأة يام، الذي انخزل، وانعزل، وسلل عن طريق النجاة، فما عدل إذ عدل.
وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية، بل هي نص في أنه قد ركب معه غير أهله، طائفة ممن آمن به.
كما قال: { وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 118] .
وقيل: كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح، وهي أم أولاده كلهم وهم: حام، وسام، ويافث، ويام، وتسميه أهل الكتاب: كنعان، وهو الذي قد غرق، وعابر، وقد ماتت قبل الطوفان.
قيل: إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت ليوم القيامة، والظاهر الأول.
قوله: {... لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا }.
قال الله تعالى: { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [المؤمنون: 28 - 29] .
أمره أن يحمد ربه، على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها، وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه، كما قال تعالى: { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف:12 - 14]
وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور، أن يكون على الخير والبركة، وأن تكون عاقبتها محمودة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، حين هاجر: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } [الإسراء: 80] .
وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [هود: 41] .
أي: على اسم الله ابتداء سيرها، وانتهاؤه.
{ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: وذو عقاب أليم، مع كونه غفورًا رحيمًا، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين. كما أحل بأهل الأرض، الذين كفروا به، وعبدوا غيره.
قال الله تعالى: { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرًا، لم تعهده الأرض قبله، ولا تمطره بعده، كان كأفواه القرب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها، وسائر أرجائها، كما قال تعالى: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر: 10 - 13] .
والدسر: السائر تجري بأعيننا، أي: بحفظنا، وكلاءتنا، وحراستنا، ومشاهدتنا لها جزاء لمن كان كفر.
وقد ذكر ابن جرير، وغيره، أن الطوفان كان في ثالث عشر، شهر آب، في حساب القبط.
وقال تعالى: { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } [الحاقة: 11] أي: السفينة.
{ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة: 12] .
قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض، خمسة عشر ذراعًا، وهو الذي عند أهل الكتاب.
وقيل: ثمانين ذراعًا، وعمَّ جميع الأرض طولها والعرض، سهلها، وحزنها، وجبالها، وقفارها، ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض، ممن كان بها من الأحياء، عين تطرف، ولا صغير، ولا كبير.
قال الإمام مالك، عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان، قد ملؤوا السهل، والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعة في الأرض، إلا ولها مالك، وحائز. رواهما ابن أبي حاتم.
{ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود: 42 - 43] .
وهذا الابن هو: يام أخو سام، وحام، ويافث. وقيل اسمه كنعان.
وكان كافرًا عمل عملًا غير صالح، فخالف أباه في دينه ومذهبه، فهلك مع من هلك.
هذا وقد نجا مع أبيه، الأجانب في النسب، لما كانوا موافقين في الدين والمذهب.
{ وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [هود: 44] .
أي: لما فرغ من أهل الأرض، ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل، أمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر.
{ وَغِيضَ الْمَاءُ } أي: نقص عما كان.
{ وَقُضِيَ الَأمْرُ } أي: وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه، وقدره من إحلاله بهم ما حل بهم.
{ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: نودي عليهم بلسان القدرة بعدًا لهم من الرحمة والمغفرة.
كما قال تعالى: { فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } [الأعراف: 64] .
وقال تعالى: { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } [يونس: 73] .
وقال تعالى: { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنبياء: 77] .
وقال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الشعراء: 119-122] .
وقال تعالى: { فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين }
وقال تعالى: { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِيْنَ }.
وقال: { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر: 15-17] .
وقال تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح: 25-27] وقد استجاب الله تعالى - وله الحمد والمنة - دعوته فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد روى الإمامان: أبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره، أن عائشة أم المؤمنين أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« فلو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي ».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة - يعني إلا خمسين عامًا - وغرس مائة سنة الشجر، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه.
ويقولون: تعمل سفينة في البر كيف تجري؟
قال: سوف تعلمون.
فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك، خشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حبًا شديدًا، خرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي ». وهذا حديث غريب.
وقد روي عن كعب الأحبار، ومجاهد، وغير واحد شبيه لهذه القصة.
وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفًا، متلقى عن مثل كعب الأحبار، والله أعلم.
والمقصود: أن الله لم يبقِ من الكافرين ديارًا، فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق، ويقال: ابن عناق كان موجودًا من قبل نوح إلى زمان موسى، ويقولون: كان كافرًا متمردًا جبارًا عنيدًا.
ويقولون: كان لغير رشده، بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا، وإنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار، ويشويه في عين الشمس، وإنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القصيعة التي لك ويستهزىء به.
ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثًا، إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير، وغيرها من التواريخ، وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها، وركاكتها، ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.
أما المعقول: فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره، وأبوه نبي الأمة، وزعيم أهل الإيمان، ولا يهلك عوج بن عنق ويقال عناق وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا؟
وكيف لا يرحم الله منهم أحدًا، ولا أم الصبي، ولا الصبي، ويترك هذا الدعي الجبار، العنيد، الفاجر، الشديد، الكافر، الشيطان، المريد على ما ذكروا.
وأما المنقول: فقد قال الله تعالى: { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ } [الشعراء: 66] .
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح: 26] .
ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
« إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ».
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم: 4] أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي: لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم اخباره بذلك، وهلم جرا إلى يوم القيامة.
وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه، فكيف يترك هذا ويذهل عنه، ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة، من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة، وحرفوها، وأولوها، ووضعوها على غير مواضعها، فما ظنك بما هم يستقلون بنقله، أو يؤتمنون عليه، وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقًا من بعض زنادقتهم، وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء، والله أعلم.
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده، وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف. ووجه السؤال: أنك وعدتني بنجاة أهلي معي، وهو منهم.
وقد غرق فأجيب: بأنه ليس من أهلك، أي: الذين وعدت بنجاتهم، أي: أما قلنا لك: { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ }.
فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم؛ بأن سيغرق بكفره، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.
ثم قال تعالى: { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] .
هذا أمر لنوح عليه السلام، لما نضب الماء عن وجه الأرض، وأمكن السعي فيها، والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم، على ظهر جبل الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور. وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال.
{ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ } أي: اهبط سالمًا مباركًا عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أي من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلًا ولا عقبًا سوى نوح عليه السلام.
قال تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [الصافات: 77] فكل من على وجه الأرض اليوم، من سائر أجناس بني آدم، ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم ».
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، مرفوعًا نحوه.
وقال الشيخ أبو عمرو بن عبد البر. وقد روي عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قال: والمراد بالروم هنا، الروم الأول، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام.
ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ولد نوح ثلاثة، سام، ويافث، وحام، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة، فولد سام: العرب، وفارس، والروم، وولد يافث: الترك، والسقالبة، ويأجوج، ومأجوج، وولد حام: ا، لقبط والسودان، والبربر.
قلت: وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): حدثنا إبراهيم بن هانئ، وأحمد بن حسين بن عباد أبو العباس، قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي، حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« ولد لنوح سام، وحام، ويافث، فولد لسام العرب، وفارس، والروم، والخير فيهم. وولد ليافث يأجوج، ومأجوج، والترك، والسقالبة، ولا خير فيهم. وولد لحام القبط، والبربر، والسودان ».
ثم قال: لا نعلم يروى مرفوعًا إلا من هذا الوجه.
تفرد به محمد بن يزيد بن سنان، عن أبيه. وقد حدَّث عنه جماعة من أهل العلم. واحتملوا حديثه.
ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلًا، ولم يسنده، وإنما جعله من قول سعيد. قلت: وهذا الذي ذكره أبو عمرو، وهو المحفوظ عن سعيد قوله.
وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله. والله أعلم. ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه.
وقد قيل: إن نوحًا عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد، إلا بعد الطوفان وإنما ولد له قبل السفينة كنعان، الذي غرق، وعابر مات قبل الطوفان. والصحيح أن الأولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة، هم ونساؤهم، وأمهم، وهو نص التوراة.
وقد ذكر أن حامًا واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود، وهو كنعان بن حام جد السودان.
وقيل: بل رأى أباه نائمًا، وقد بدت عورته فلم يسترها، وسترها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته، وأن يكون أولاده عبيدًا لإخوته.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أنه قال:
قال الحواريون لعيسى بن مريم: لو بعثت لنا رجلًا شهد السفينة فحدثنا عنها.
قال: فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًا من ذلك التراب بكفه.
قال: أتدرون ما هذا؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: هذا كعب حام بن نوح. قال: وضرب الكثيب بعصاه.
وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، وقد شاب.
فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكت؟
قال: لا، ولكني مت وأنا شاب. ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثم شبت.
قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير.
فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام، أن اغمز ذنب الفيل فغمزه، فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه، أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام، أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر.
فقال له عيسى: كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت؟
قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت.
قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها، وطين برجلها، فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت.
قال: فقالوا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا، فيجلس معنا ويحدثنا؟
قال: كيف يتبعكم من لا رزق له. قال: فقال له عد بإذن الله، فعاد ترابًا.
وهذا أثر غريب جدًا.
و روى غلباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلًا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يومًا، وإن الله وجَّه السفينة إلى مكة، فدارت بالبيت أربعين يومًا، ثم وجَّهها إلى الجودي فاستقرت عليه.
فبعث نوح عليه السلام الغراب، ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع علىالجيف فأبطأ عليه.
فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلى أسفل الجودي، فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصحبوا ذات يوم، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها العربي، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم.
وقال قتادة وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب، فساروا مائة وخمسين يومًا، واستقرت بهم على الجودي شهرًا. وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشرواء من المحرم.
و قد روى ابن جرير خبرًا مرفوعًا يوافق هذا، وأنهم صاموا يومهم ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو جعفر، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي، عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل، عن أبي هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود، وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال:
« ما هذا الصوم؟ »
فقالوا: هذا اليوم الذي نجا الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرًا لله عز وجل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم، فأمن أصحابه بالصوم، وقال لأصحابه: من كان منكم أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله، فليتم بقية يومه ».
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر، المستغرب ذكر نوح أيضًا، والله أعلم.
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم، ومن حبوب كانت معهم، قد استصحبوها، وأطحنوا الحبوب يومئذ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم، لما انهارت من الضياء، بعد ما كانوا في ظلمة السفينة، فكل هذا لا يصح فيه شيء، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل، لا يعتمد عليها، ولا يقتدى بها، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان - أرسل ريحًا على وجه الأرض، فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض، فجعل الماء ينقص، ويغيض، ويدبر، وكان استواء الفلك على الجودي، فيما يزعم أهل التوراة - في الشهر السابع لسبع عشر ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر، رؤيت رؤوس الجبال.
فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا، فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء، فلم يرجع إليه. فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعًا، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء، فلم ترجع فرجعت حين أمست، وفي فيها ورق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض.
ثم مكث سبعة أيام، ثم أرسلها فلم ترجع إليه، فعلم نوح أن الأرض قد برزت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان، إلى أن أرسل نوح الحمامة، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين، برز وجه الأرض، وظهر البر، وكشف نوح غطاء الفلك.
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة، التي بأيدي أهل الكتاب.
قال ابن إسحاق: وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين، في ست وعشرين ليلة منه { قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] .
وفيما ذكر أهل الكتاب: أن الله كلم نوحًا قائلًا له: اخرج من الفلك أنت، وامرأتك، وبنوك، ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التي معك، ولينموا، وليكبروا في الأرض، فخرجوا وابتنى نوح مذبحًا لله عز وجل، وأخذ من جميع الدواب الحلال، والطير الحلال، فذبحها قربانًا إلى الله عز وجل، وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض.
وجعل تذكارًا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي قدمنا عن ابن عباس أنه أمان من الغرق.
قال بعضهم: فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر، أي أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس، وأهل الهند، وقوع الطوفان. واعترف به آخرون منهم. وقالوا: إنما كان بأرض بابل، ولم يصل إلينا. قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابرًا عن كابر، من لدن كيو مرث، يعنون آدم إلى زماننا هذا. وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران، وأتباع الشيطان.
وهذه سفسطة منهم، وكفر فظيع، وجعل بليغ، ومكابرة للمحسوسات، وتكذيب لرب الأرض والسماوات، وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان، على وقوع الطوفان، وأنه عم جميع البلاد، ولم يبق الله أحدًا من كفرة العباد استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم، وتنفيذًا لما سبق في القدر المحتوم.

Linkwithin Variety

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

اعلانات عالمية

مكتبة الفيديو